تحليل آيات النفاق في سورة البقرة
أولاً: السياق العام للآيات.
تستمر الآيات في ذكر صفات المنافقين ومكرهم وخبثهم، والنفاق يا إخوة نوعان:-
- نفاق عملي.
- نفاق اعتقادي.
فأما النفاق العملي فهو الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:-
( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ).
فهذا نفاق عملي قائم على العمل والفعل.
وأما النفاق الاعتقادي فهو إظهار عكس ما يبطن مثل:-
- إبراهيم عيسى يبطن إلحاده ويظهر أنه مسلم.
- خالد منتصر يخفي إلحاده ولا يصرح بإسلامه.
- عمي محمد يبطن إلحاده ويظهر علامة الصلاة في فيديوهاته.
- صديقي إبراهيم عبد الظاهر يُظهِرُ حبه لي ويبطن غيرته مني لأني أوسم منه وأغنى منه وأملك أموالاً أكثر منه.
وهكذا..
ورغم أن هذا التدبر هو تدبر ثالث خمس آيات من سورة البقرة أي من الآية 11 حتى الآية 15 إلا أننا يجب أن نبدأ من أول صفات المنافقين، من أول قوله تعالى:-
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين}.
لأننا في التدبر السابق لم نعطي هذه الآيات حقها في التدبر ومررنا عليها مرور الكرام، ولنستمتع قليلاً 😉
ثانياً: تحليل الآيات.
يقول الله سبحانه وتعالى:-
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) }
تبدأ الآيات بقوله سبحانه:-
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}.
دعونا نمر على تفسيرين (التفسير الميسر - التفسير المختصر ) ثم نورد تدبرنا لهذه الآية.
التفسير الميسر: ومن الناس فريق يتردد متحيراً بين المؤمنين والكافرين وهم المنافقون الذين يقولون بألسنتهم: صدقنا بالله وباليوم الآخر.
وهم في باطنهم كافرون لم يؤمنوا.
التفسير المختصر: ومن الناس طائفة يزعمون أنهم مؤمنون يقولون ذلك بأفواههم خوفاً على دمائهم وأموالهم، وهم في الباطن كافرون.
التفسير الميسر يقول أنهم حيارى فلا هم ركنوا للإيمان، ولا هم ركنوا للكفر، وهذا فيه فوائد عظيمة للغاية، فالمنافقون في الأصل كافرون، فما الذي حدث جعلهم حيارى بعد أن كانوا عتيدي الكفر ثابتين فيه؟ لدرجة أن الله سبحانه وتعالى وصفهم فقال:-
{ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143) }
فما الذي حدث؟ هنا يأتي تدبرنا يا إخوة.
فالذي حدث بكل بساطة حولهم من الثبات على الكفر إلى التذبذب والحيرة بين الإيمان والكفر هو الوسط الإسلامي الذي كانوا فيه.
فالأذان يؤذن خمس مرات فاليوم.
وكل سكان المدينة يجتمعون للصلاة.
وكل التعاملات تتم وفق الشريعة الإسلامية.
فسطوة المجتمع حولتهم من الثبات في الكفر إلى التذبذب بين الكفر والإيمان، ومن هنا نستفيد فائدة تنبثق منها فائدتين هذه الفائدة هي أن سطوة المجتمع على الفرد جامحة وقوية، وأما الفائدتين المستفيدتان من هذه الفائدة فهما:-
- حرمة الذهاب إلى مجتمعات الكافرين.
- تعظيم ثواب المؤمن الصابر الثابت في مجتمع كفري.
فأما الفائدة الأولى فأستفيدها من تذبذب المنافقين نتيجة سطوة المجتمع الإسلامي عليهم، فكذلك إذا ذهب المسلم لمجتمع كفري فسيكون لتجمعهم سطوة عليه، وقد يؤدوا به للحيرة والشك في الإسلام، لذلك يحرم على المؤمن السفر لمجتمعات الكافرين، ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:-
(أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين لا تراءى ناراهما).
ويؤيد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى:-
{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدو عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }.
وأما الفائدة الثانية وهي تعظيم ثواب المؤمنين فمستفادة من أن للمجتمع سطوة على الفرد، فمن كان مقيماً في مجتمع كفري وثبت على إيمانه فهو رجل قوي الإيمان، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في هذا المعنى:-
{ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10) }
الحديد[ 10 ]
فإن كنت في مجتمع إسلامي فلا تغادره.
وإن كنت في مجتمع كفري فغادره.
وإن كنت لا تقدر على المغادرة فاثبت على دينك وابحث عن اليقين.
وهنا نخرج بفائدة أخرى من هذه الآية الكريمة وهي أنه واجب على المسلم سواء مقيم في مجتمع إسلامي أم لا أن يبني ويزيد اليقين بالله في قلبه، حتى إذا خرج من مجتمعه المسلم استطاع الثبات أمام الفتن.
هذا إذا أخذنا بالتفسير الميسر الذي يقول بأنهم حيارى، أما إذا أخذنا بالتفسير المختصر الذي يقول أنهم بجانب حيرتهم فإنهم خائفون على أموالهم فسنخرج بفوائد عظيمة أخرى.
فإذا أردنا أن نكبت الكافرين ونجعلهم في خوف وخسران يجب أن نربط أمان أموالهم بالخضوع للإسلام، فإذا كنت مسيحياً فلا أمان لأموالك إلا بعدم تعرضك للمسلمين أو الإسلام.
فيضطر الكافرون أن يخضعوا للمسلمين حتى لا يخسروا أنفسهم وأموالهم، وهذا فيه عزة للمسلمين، وعلى هذا فيجب على المسلم أن يكون المال والثروة والقوة حتى لا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى.
لا أصدق أننا خرجنا بكل هذه الفوائد من هذه الآية فقط.
الآية الثانية.
يقول الله سبحانه وتعالى:-
(يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).
أولاً: هناك فرق بين (يخدع) و (يخادع) فـ(يخادع) على وزن (يفاعل) مثل (يقاتل) فهناك فعل ورد فعل متبادل بين طرفين.
وهنا أول فائدة، أجل الخداع في الإسلام مذموم لكن ليس في مواجهة المنافقين، فكما هم يحاولون الخداع علينا نحن أيضاً أن نخدعهم، لذلك قال الله سبحانه (يخادعون) ولم يقل (يخدعون) وذلك لأنه مقابل محاولتهم الخداع هناك خداع يقابلهم فتحصل المفاعلة.
ثانياً: انظر لقوله سبحانه {يخادعون} أي (يحاولون) فهم لم يستطيعوا خداع الله، ولم يستطيعوا خداع المؤمنين، وإنما فقط يحاولون، ونستفيد من هذا أنه على المؤمن أن يكون يقظاً متفتح العقل حتى لا يستطيع أحد خداعه.
ثالثاً: يقول الله سبحانه وتعالى:-
( وما يخدعون إلا أنفسهم).
هذه الآية تذكرني بقوله سبحانه:-
( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسنون صنعا).
المنافقين كانوا يظنون أنهم يحسنون العمل بخداع المسلمين، ولكنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم فهم يقولون لأنفسهم أنهم يحسنون الصنع ولكنهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم بنيران يوم القيامة.
رابعاً: انظر لقوله سبحانه (يخادعون الله) و (يخدعون أنفسهم) فهم في خداعهم لله يخادعون أي يحاولون، ولم يستطيعوا، بينما في خداعهم لأنفسهم نجحوا فخدعوها.
الآية الثالثة.
يقول الله سبحانه:-
{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}.
أولاً: يخبرنا الله سبحانه أن مرض قلوبهم سبب في زيادة مرضهم، ونستفيد من هذا أن القلب المريض هو القلب الذي تمده مادتي إيمان وكفر، فهم يعيشون وسط المسلمين وهذه مادة إيمان، وأيضاً يتواصلون مع الكافرين، فهذه مادة كفر، فصارت قلوبهم مريضة، وعلى هذا فالقلب المريض هو القلب الذي تمده مادتي كفر وإيمان.
ثانياً: يخبرنا الله سبحانه أنه زادهم مرضاً لأن في قلوبهم مرض، وهنا فائدة عظيمة وهي: لا تعرض نفسك للفتن ثم عندما تفتتن تقول لم يحميني الله من الفتنة، فالمنافقين عرضوا أنفسهم بإرادتهم لفتنة الكفر، فكان عقاب الله لهم أن زادهم فتنة إلى فتنتهم، ولمن سيسأل لماذا لم يمهلهم الله فقد أجبنا على هذا السؤال في التدبر السابق.
ثالثاً: يقول الله سبحانه أن مرض قلوب الكافرين كانت سبباً في زيادة الله لمرضهم، وعلى هذا إذا رأى الله في قلبك سلامة وسعياً وجهداً منك نحو تطهير قلبك فسيزيدك سلامة كما يزيد مرضى القلوب مرضاً، ولهذا قال الله سبحانه:-
{ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}.
فاسعى يا أخي إلى الهداية كما تسعى إلى الرزق يهدك الله ويزيدك هدى ويجعلك من المتقين.
رابعاً: يقول الله سبحانه {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} والفائدة الأولى والواضحة هي حرمة الكذب، والثانية هي الخوف من عذاب الله، والثالثة هي الخوف من أن نكون من المنافقين، جعلني الله وإياكم من المؤمنين.
الآية الرابعة.
يقول الله سبحانه وتعالى:-
{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
هناك شئ غريب في هذه الآيات أخذت وقتاً لفهمه، لماذا يقول الصحابة للمنافقين لا تفسدوا في الأرض؟ وهذا السؤال سيتكرر مرة أخرى بعد قليل، الفكرة هي: من المفترض أن المنافقين يظهرون الصلاح على ظاهرهم، ومن أظهر الصلاح فإنه لا يظهر منه فساد، فلماذا يقال لهم لا تفسدوا في الأرض؟
ثم لماذا التعبير شديد؟ التعبير هو (لا تفسدوا في الأرض) وكأنهم يفسدون الكوكب بأكمله لا جزءاً صغيراً منه.
تفكرت كثيراً في هذين المعنيين وراجعت التفاسير فوجدت حيرتي في محلها.
طالعت التفسير الميسر والتفسير المختصر وتفسير السعدي وجدت الثلاثة مجمعين على أن المنافقين يفعلون معاصي معينة فقام الصحابة بنهيهم عنها، وهنا احتجت لتفسير يحتوي على روايات تخبرني عن هذه المعاصي، فراجعت تفسير ابن كثير لأعرف ما هي هذه المعاصي فكانت الصدمة.
الآية لا تتحدث عن المنافقين في زمن النبي، بل تتحدث عن منافقي زمننا نحن، يقول الإمام ابن كثير:-
- قال سلمان: لما يجئ أهل هذه الآية بعد.
- قال ابن جرير: حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شريك، حدثني أبي، عن الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلمان في هذه الآية، قال: ما جاء هؤلاء بعد.
وإذا نظرنا لزمننا الحالي وجدنا الآية منطبقة على منافقي أمتنا بالضبط، فإذا قيل لهم، إذا أُمِروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، إذا نُصِحوا بأن يتوقفوا عن الإفساد قالوا إنما نحن مصلحون، إنما نحن تنويريون، إنما نحن نقاوم الإرهاب، إنما نحن نريد تجديد الخطاب الديني، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
احذر أخي المسلم أن يأتيك أخوك المسلم ناصحاً فترد نصيحته، قد يقسو عليك في النصح، اقسو عليه وخذ حقك لا مشكلة ولكن فكر في مضمون كلامه.
يأتيني صديقي إبراهيم عبد الظاهر ناصحاً فيتشاجر معي على مسائل فرعية، حينها لا يمنعني من الجري خلفه سوى شاشة بيننا، ولكن بعد أن نهدأ أفكر في كلامه فأجد فيه صحةً كثيرة، ولكن معروف طبعاً أنني أنا الأصح 😊
إذا آتاك أخوك ناصحاً فلا تقل له أنك مصلح، بل قل له جزاك الله خيراً أو تباً لك لا أعرف صراحةً على حسب أسلوب نصحه، المهم في الحالتين فكر في كلامه ولا ترده عليه فتجد نفسك من المفسدين وأنت لا تشعر.
ونستفيد أيضاً من هذه الآيات أن نرفض دعوات المحبة والسلام والتعايش الزائف تحت دعوى الإنسانية، فالإمام ابن كثير نقل في تفسيره أن الذنب الذي وقع فيه هؤلاء المنافقين هو موالاة الكافرين، وكانوا يتحججون بحجة هي: لا نريد أن نخسر المؤمنين ولا أن نخسر الكافرين، نريد أن نتعايش، لنصنع الحب، إلى آخر هذه اللزاجة.
لذلك عليك عزيزي الكائن البشري أن تتعلم عقيدة الولاء والبراء حتى لا تكون كالمنافقين.
الآية الخامسة.
يقول الله سبحانه وتعالى:-
{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
بعد تكسير العظم السابق لنهدأ قليلاً في هذه الآية، فهذه الآية نستفيد منها أنها دعوة للحوار، فالله سبحانه وتعالى يصف المنافقين أنهم لا يشعرون بفسادهم، فمن الواضح أنهم مصدقون من داخلهم أنهم مصلحون، لهذا يجب علينا أن نحاورهم، ونثبت لهم أن ما يفعلونه إفساد في الأرض، أو نصفيهم وننتهي لأجل مرارتي.
ثم انظر كيف يصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله {إنهم هم المفسدون} لم يقل ( إنهم مفسدون ) بل المفسدون، وذلك دليل على عِظَم فساد النفاق، وعِظَم فساد الكذب، وعِظَم فساد المخادعة، فاستحقوا بأن يكونوا هم المفسدون في الأرض ليسوا مجرد مفسدين.
الآية السادسة.
يقول الله سبحانه وتعالى:-
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون }.
هنا نتوقف قليلاً، من المفترض أنهم يظهرون الإيمان فلماذا يقول لهم الصحابة آمنوا؟
راجعت التفاسير فلم أجد صراحةً ما يجيبني على هذا السؤال ولكن بالرجوع لسياق الآية سنجد أنهم وصفوا الصحابة بأنهم سفهاء، وهذا غريب.
لماذا غريب؟
الله يقول { إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس }.
من الواضح أن الناصح هنا شخص مؤمن بنبوة رسول الله، ولم يكن هناك مؤمن من خارج الصحابة.
فنجد ردهم هو {أنؤمن كما آمن السفهاء}.
فسبوا الصحابة و وصفوهم بأنهم سفهاء، بل واعترفوا ضمنياً أنهم غير مؤمنين.
فكيف جرؤا على سب الصحابة أمام شخص مؤمن ينصحهم أو مجموعة مؤمنة تنصحهم؟ ألم يخافوا أن يهاجمهم المسلمون؟
وكيف اعترفوا بهذا الشكل أنهم ليسوا مؤمنين أمام رجل مؤمن؟ ألم يخشوا أن يفتضح أمرهم؟
لكي نفهم هذه الإشكالات لابد أن نبدأ من بداية مفهوم الإيمان، وبالرجوع للقرآن والاعتماد عليه اتباعاً لقاعدة تفسير القرآن بالقرآن سنجد الله سبحانه وتعالى يخبر المؤمنين الذين خافوا أن يضيع أجر صلاتهم بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام قائلاً لهم:-
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم }.
أي لن يضيع الله صلاتكم، إذاً فالإيمان هو العمل (مقدمة أولى).
فإذا أعدنا التقليب في صفحات القرآن الكريم سنجد الله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين:-
{ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل }.
الله يأمر المؤمنين بأن... يؤمنوا!
يا الله هم مؤمنين أصلاً فلماذا تأمرهم بالإيمان؟
بالرجوع للمقدمة الأولى وهي أن الإيمان هو العمل سنفهم أن الله يأمرهم أن يزيدوا عبادتهم، وأن يجبروا نقصها، ويؤيد هذا المعنى الذي وصلنا له الإمام السعدي فيقول رحمه الله:-
( اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه ، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه ، وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان ، كقوله تعالى : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ) وإما أن يوجه إلى من دخل الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات).
إذا فالأمر بالإيمان قد يكون أمرٌ بزيادة العمل وجبر نقصه (مقدمة ثانية).
والآن لنعد للمنافقين، سنجد الله سبحانه وتعالى يقول واصفاً إياهم:-
{إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142) }
النساء[ 142 ]
إذاً فالمنافقين كسالى في الصلاة، ولا يذكرون الله إلا قليلا (مقدمة ثالثة).
الآن لنجمع المقدمات الثلاثة سوياً لنخرج بصورة متكاملة وهذه المقدمات الثلاثة هي:-
1- الإيمان هو العمل.
2- الأمر بالإيمان في بعض المواضع أمر بزيادة العمل وجبر نقصه.
3- المنافقين قليلوا العمل.
إذاً النتيجة أن الذين نصحوهم بالإيمان لم يكونوا يقصدون الإيمان القلبي فالمنافقين يظهرون هذا الإيمان، فلن يذهب لهم أحد ليقول لهم آمنوا الإيمان القلبي، بل الناصح لهم كان يقصد زيدوا عباداتكم، توقفوا عن الكسل في الإتيان للصلاة، توقفوا عن قلة ذكر الله وزيدوا ذكر الله.
وما يؤيد هذا المعنى هو قول الناصح لهم:-
{ آمنوا كما آمن الناس }.
من هما الناس؟
- إنهم الصحابة.
إذاً فالإيمان المقصود به هنا هو عبادة الصحابة وكثرة ذكرهم لله ونشاطهم في السعي للصلاة، إذ أن المنافقين يظهرون الإيمان القلبي ويدعونه، ويقولون انهم يؤمنون كما يؤمن الصحابة، وعلى هذا فالناصح لهم كان يقصد أن يعبدوا الله بأعمالهم كأعمال الصحابة.
وأما عن جوابهم:-
{ أنؤمن كما آمن السفهاء} فكيف أجابوا هذه الإجابة وهم وسط الصحابة فكيف يصفون إيمانهم بإيمان السفهاء؟ أجاب عليه الإمام البغوي فقال:-
( وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك ).
أي أنهم كانوا يقولون أنؤمن كما آمن السفهاء بينهم وبين بعضهم البعض لا علناً أمام المسلمين.
هذا بالنسبة لما يمكن أن يشكل على القارئ في الآية.
أما إذا تدبرنا المعاني والفوائد في الآية فسنخرج بفوائد جمة، وهي:-
أولاً: وجوب الأمر بالمعروف فالصحابة نصحوا المنافقين وأمروهم بالمعروف (وإذا قيل لهم آمنوا).
ثانياً: اتخاذ الصحابة قدوة ومحاولة الوصول لعباداتهم وقلوبهم (كما آمن الناس).
ثالثاً: زيادة الإيمان تحصل بزيادة العمل، فهم مأمورون بالإيمان لكي يكونوا كالصحابة، أي بزيادة العبادة والإخلاص فيها.
رابعاً: ديدن المنافقين والكافرين على مر العصور هو تسفيه المسلمين، فتجدهم يقولون عنهم إرهابيين، أو سفهاء، فعلينا بالصبر والثبات فالله سيأتينا بحقنا إما في الدنيا بتمكيننا وإما في الآخرة.
خامساً: وجوب الرد على الشتامين بنفس شتيمتهم، فالله رد عليهم وصف السفه و وصفهم هم به.
الفرق بين (ولكن لا يشعرون) و (ولكن لا يعلمون)
يقول الله سبحانه وتعالى:-
- { آلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون }.
- { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون }.
لماذا استخدم الله في الآية الأولى الشعور وفي الثانية العلم؟
انظر لآية الشعور، ستجد أنها مسبوقة بآيتين يفسران لنا لماذا استخدم الله لفظ (لا يشعرون) وهما:-
- {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم}.
- { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}.
تأمل الآيتين ستجد أن الآية الأولى هناك خداع راجع على المنافقين، والثانية ستجد أن قلوبهم فيها مرض.
شخص ما يخدعك.
قلبك به مرض.
هذين الاثنين هما شعوران، فمنمرض قلبه من المفترض أن يشعر بألم، ومن كان هناك من يخدعه من المفترض أن يشعر بشئ مريب يحصل.
انظر الآن لقوله تعالى:-
{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون }.
كيف يفسدون؟
- يفسدون بخداع أنفسهم.
- يفسدون بإمراضهم لقلوبهم.
ورغم أن الخداع والريبة والمرض يملأونهم فمن المفترض أن يشعروا بهما {ولكنهم لا يشعرون}.
أما آية السفه فالسفه في اللغة هو ضعف العقل وضعف الرأي، وضعف العقل راجع لضعف العلم، وضعف الرأي راجع لقلة الخبرات بالحياة، ولهذا كان الأبلغ وصفهم بأنهم لا يعلمون.
والله أعلم.
الآية السابعة.
{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزؤون}.
شياطينهم أي شياطينهم من الإنس الذين يحرضونهم على النفاق، وهنا أول فائدة، وهي أن صديق السوء هو شيطان قد يغويك ويضلك.
ثم هناك شئ غريب في هذه الآية وهو:
لماذا قال المنافقون لشياطينهم إنا معكم؟ وكأن شياطينهم شكت في كونهم معهم فأرادوا طمأنتهم.
وهنا نستفيد فائدة جديدة، وهي أن أهل الكفر والنفاق لا يثقون ببعضهم، ويحتاجون من وقت لآخر أن يطمئنوا لبعضهم البعض، وهذا شئ نستطيع أن نستغله فنوقع بينهم العداوة والبغضاء والشك فينتهي كيدهم.
كما أن هذا يحفزنا على أن نعزز قيم الأخوة بيننا ليزيد الترابط بيننا.
الآية الثامنة
{ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون }.
لا يجوز وصف الله بالمستهزئ إلا إن كان في سياق مقابلة الفعل بالفعل، فحينما يمكر الكافرون ويقابلهم اله بالمكر نقول:-
{ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
أما الوصف مجرداً فلا يجوز وصف الله به.
ثم انظر كيف كانت عاقبة النفاق أن مدهم الله في طغيانهم جاعلاً إياهم حيارى يعمون عن الرشد، لذلك احذر أخي أن تنافق، احذر أن تقع في النفاق، عصمني الله وإياكم منه.
وإلى اللقاء في التدبر القادم.
جزاك الله خيرا واسكنك فسيح جناته اكثر شي عجبني لماذا الله قال للمؤمنين ان يؤمنوا مع انهم مؤمنين فهمت الآية جيدا الحمد لله بفضل الله ثم بفضلك شكرا لك مع السلامة 🖤
ردحذفاعتقد في بعض الاخطاء بِ اللآيات
ردحذفمثل طغيانهم تكتب طغينهم و يخادعون وتكتب يخدعون ولكن اللفظ بلالف لذلك أعتقد أنك كتبتها هكذا وفقط مع السلامة 🖤