دليل الفطرة على وجود الله بالأدلة العلمية | سلسلة الأدلة على وجود الله

 





 

 ما هو دليل الفطرة؟ وكيف يثبت وجود الله؟

إما أن تؤمن بالله وإما أن تكفر بنفسك، لا خيار لديك ولا بديل، على هذه الكلمة السابقة تتأسس البراهين التي تثبت وجود الله من خلال النفس الإنسانية، وهذا الدليل يعتبر من أقوى الأدلة إن لم يكن أقواهم، فهو ينطلق مما يشعر به الإنسان من نفسه، ومحاولة السفسطة حوله أو فقط مجرد مجادلته ستؤدي بالإنسان إلى كوارث أخلاقية، وفطرية، وعقلية، بل وغريزية أيضاً، وهذا سيتضح أثناء قرائتك للمقال.


فالدليل الفطري مبني ومؤسس في الأصل على شئ واحد وهو شعور الإنسان من داخله بنفسه، شعوره بحضوره في ذاته، شعوره بعقله، بضرورة الاتصاف بمحاسن الأخلاق، شعوره بأن حياته ذات معنى وأنه ليس مجرد مادة كيميائية نشأت عن طريق الصدفة بلا هدف ولا غاية ولا قيمة، فهل من الممكن أن نتعايش مع إحساسنا بأن هناك غاية لنا في الوجود دون وجود إله؟ هل من الممكن أن يثق الإنسان في نفسه بدون وجود إله؟ هل من الممكن أن يثق الإنسان في قدرته على الوعي بنفسه وبالوجود من حوله دون وجود إله؟ وهل من الممكن أن نتصف بمحاسن الأخلاق إذا لم يكن للإله وجود؟ وماذا عن غرائزنا وغرائز الحيوانات م حولنا؟ أهي نتاج الخبرة؟ أم أنه الإلهام؟ كل هذا سنشرحه ونوضحه في دليلنا هذا، فإما الإيمان بالله، وإما الكفر بالإنسان، لا بديل، والآن لنستمتع باستعراض أول الأدلة على وجود الله سبحانه من داخل النفس البشرية وهو الدليل الفطري. 


 خطورة دليل الفطرة على وجود الله

للوهلة الأولى سيظن القارئ أن هذا الجزء من المقال يباغت العواطف، ولكن حقيقة فهذا الجزء من المقال هو استدلال عقلي صارم بطبيعة الإنسان وما يجول بداخله من مشاعر على وجود الله، فهو ليس مداعبةً للمشاعر لكي يتعاطف المرء فيشعر بالحنين المؤدي لقبول الوجود الإلهي، بل هو استدلال بما يجول في الصدر من احتياج وضرورات أخلاقية ومبادئ عقلية وغرائز جسدية تؤدي بنا بشكل استدلالي عقلي وصارم إلى الاعتراف بأن هناك إله.


وأعلم أن هناك من الكفار من يقرأ المقال الآن بغية مناقضته والرد عليه والتهجم عليه، ولذلك أنا أدعوك يا من تقرأ بهدف مصارعتي إلى أن تصارعني بكل قوتك بعد أن تقرأ كلامي كاملاً، لا أن تقرأ جزءاً منه ثم تكتب اعتراضك على هذا الجزء الذي لم تقرأ غيره، اهدأ وتحلى بالعقل وافهم المغزى الحقيقي وابدأ بالتكلم بعدها بما هو حق لا بما يمليه عليك هواك.


وبما أنني تطرقت لهذه النقطة فأحب أن أسأل، من أين جاء الكافر بسعيه في نشر كفره؟ وأخص بهذا السؤال الملحد وحده عن غيره من الكفار، أوليس الموت مصير نهائي لا شئ بعده؟ والحياة مجرد تفاعلات كيميائية لا أكثر؟ إن سعي الملحد إلى الاعتراض هو ترجمة عملية لما سأقوله وأشرحه في هذا المقال، فالإنسان يشعر دائماً أنه يوجد حق مطلق يجب أن يتم تقريره، فتجده يسعى دائماً ليقرر ما يعتقد من أنه حق، ويشعر أيضاً من أنه ذو غاية وذو هدف جليل في الكون، فتجده لا ينفك يسعى خلف هذا الهدف العظيم بتقرير ما يظنه حق.


فإحساس الملحد بالمعنى، وإحساسه بوجود حق مطلق، وإحساسه بأنه ذو غاية وهدف يدفعه يوميا في غير مطالب الجسد الدنية، بل يرقى لأهداف أعظم كتقرير حق أو نفي باطل بحسب ظنه واعتقاده. 


ثم تجد نفس ذاك الملحد في الكروب والأزمات، يباغته شعور بالالتجاء إلى من يفك كربه، ويزيل همه وغمه، وليس الملحد فقط بل وكل إنسان في سواد الكروب يهلع إلى قوة كونية عليا لعله يجد فيها ما يشرح صدره ويطمئن قلبه ويهني باله.


كل هذه المشاعر التي تجول بصدر الإنسان تشف عن احتياج طبيعي إلى وجود إله يسمع الدعاء، ويجيب المضطر، ويكشف السوء، وعلى هذا فالإنسان إن أنكر الوجود الإلهي فعليه أن ينكر هذا النزوع الفطري الذي بداخله إلى وجود قوة مطلقة يلجأ إليها وقت الشدائد.


فإن تصالح الإنسان مع نفسه، وضعفه، واحتياجه، وفقره، وشعوره الدائم بالاحتياج للوجود الإلهي أذعن وخضع لله، وإن كابر، ورفض كل مشاعره التي تجول في صدره الصارخة باحتياجها لله فرفض وكفر فهو سيعيش في مشاقة الوجود، وعدمية السعي، وعبثية المعنى، الانتحار غايته الكبرى، والموت فرحته العظمى، والاكتئاب ينهش صدره الفاني. 


وهنا قد يرد ملحد فيقول أن الإيمان بخالق هو أمر دخيل على النفس البشرية، وأن الإنسان مستغنٍ عن الإله لتحقيق التوازن النفسي، وأن فهم حقيقة الكون والنفس هما السبيل لطرد وهم الإيمان بالوجود الإلهي من العقل.


فأي القولين هو الصحيح؟ 

قول الملحد أم قول المؤمن؟ 

هذا ما سنكتشفه سوياً.


البناء العقلي لدليل الفطرة لإثبات وجود الله

الاستدلال العقلي بالدليل الفطري على الوجود الإلهي قائم على ترتيب منطقي لأجزاء الدليل لينتهي بنا في النهاية إلى الحقيقة الكونية الكبرى وهي أن الله موجود، وهذا البناء المنطقي كالآتي:-


1- علم التاريخ وعلم النفس وعلم الأعصاب وعلم الجينات أثبتوا أن الإيمان بالوجود الإلهي هو الأصل في الإنسان، والكفر بالوجود الإلهي هو شذوذ طارئ على التاريخ البشري وطبيعة البشر. 


2- عجز خرافة التطور البيولوجي عن تفسير سبب نزوع الإنسان للتدين والإيمان بوجود إله.


3- الإيمان بوجود إله متجذر في داخل أعماق النفس البشرية.


4- التشكيك في بعض ما هو متأصل في النفس يفضي إلى التشكيك في كل ما هو متأصل في الإنسان.


5- الإنسان ملزم بتصديق ما هو متأصل بداخله وإلا فقد إنسانيته. 


6- الإيمان بالله من ضمن الأصول في الإنسان. 


7- الإنسان ملزم بتصديق الوجود الإلهي. 


هذه هي الصياغة الأقرب إلى الدليل الفطري، ولكي نزيد الأمر وضوحاً يجب أن نعرف ما هي الفطرة. 


تعريف الفطرة. 

الفطرة لغةً هي الخلقة، أي الهيئة التي خلق عليها الإنسان، والفطرة التي خُلِق الإنسان عليها في منظور الإسلام هي عبادة الله عز وجل وتوحيده لا مجرد الاعتقاد بوجوده سبحانه، وفي هذا المعنى قال الله عز وجل:-


{ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) } 

الروم[ 30 ].


أي أن إقامة وجوهنا لدين الله عز وجل هي الفطرة أي الخلقة التي فطرنا وخلقنا الله عز وجل عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-


( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟). 


فكلنا نولد على فطرة الإسلام وتوحيد الله عز وجل والخضوع له وعبادته، والفطرة ليس معناها أبداً أننا نولد ونحن عالمين بكل عقائد الإسلام، هذا ليس معنى الفطرة، فالله عز وجل قال:-


{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78) } 

النحل[ 78 ].


فنحن نخرج من بطون أمهاتنا صفحة بيضاء لا نعلم شيئاً، والذي يقول أننا نحن المسلمين نقول بأن الفطرة تعني أننا نخرج من بطون أمهاتنا عالمين بالتوحيد والشرك والإيمان والكفر كذب على المسلمين. 


المسلمون يقولون أن الإنسان يولد بميل فطري طبيعي للإيمان بالله و وحدانيته وبربويته وألوهيته، ميل فطري طبيعي، لا علماً بأنه الرب الإله الواحد، وإنما ميل للإيمان بقوة مطلقة كبرى واحدة مالكة لكل شئ قاهرة له. 


الأدلة العلمية تثبت وجود الله عن طريق دليل الفطرة

ليس الإسلام وحده هو الذي خير الإنسان بين الإيمان بالله أو الكفر بالإنسان عامةً، ليس الإسلام وحده هو الذي قرر حقيقة أن الإنسان لا مفر له من العبودية لله عز وجل، فأنت عبد لله عز وجل بفطرتك وطبيعتك شئت أم أبيت، هذه الكلمات لم تخرج من الإسلام فقط وإنما جاء العلم التجريبي كخادم للإسلام مقراً بها، ومثبتاً لصحتها، فجل الدراسات العلمية اليوم تعترف بأن الإيمان بالله عز وجل مغروس بشكل غريب في أعصابنا وأمخاخنا وقلوبنا بل وفي جيناتنا أيضاً، إن الإيمان بالله عز وجل غازي لكياننا الضعيف بين يديه سبحانه، وهذا ما شهد به العلم التجريبي.


وكانت أول الشهادات هي شهادة العالِم "دين هامر" رئيس مركز أبحاث الجينات بالمعهد القومي للسرطان في بلاد البروتستانت (أمريكا) إذ أنه بعد بحث ودراسات علمية كثيرة لم يجد مفراً من أن يؤلف كتابه الشهير الذي سماه (جين الإله: كيف تم تسليك الإيمان بالله في جيناتنا). 


الرجل يعترف بكل صراحة.. الإيمان بالله في جيناتنا. 


فإذا تركنا دين هامر وجدنا عالم الأعصاب "كفن نيلسون" يباغتنا بكتاب آخر بعنوان ( نبضة الإيمان بالله، هل ثبت الإيمان في أدمغتنا؟). 


ثم ألف عالم الأعصاب "أندرو نيوبرغ" كتاباً آخر جمع فيه دراساته على سبب وجود الإيمان فينا، وسمى كتابه (لماذا لا يختفي الله؟ علم الدماغ وبيولوجيا الإنسان). 


ولم يتوقف الأمر هنا، بل زاد أيضاً بنشر صحيفة التلجراف البريطانية حصيلة بحث أكاديمي في 8 نوڤمبر 2008 بعنوان "الأطفال يولدون مؤمنين بالله" وقد انتهى البحث إلى أن الإيمان بالله عز وجل هو شئ نولد به، مغروس فينا، لا مهرب لنا منه. 


وقد استقى المقال مادته من كتاب لدكتور علم النفس الدكتور جاستن باريت الذي جمع دراساته النفسية على الأطفال في كتاب بعنوان (فطرية الإيمان).


وقد كان الكتاب مصرحاً بتصريحات غاية الخطورة وشهادات ودراسات عصارتها هي "الإيمان بالله هو الحقيقة الكبرى التي نولد بها، إنه مركوز فينا، مغروس بشكل متجذر أكثر من أي حقيقة أخرى".


وقد انتهت عالمة النفس المختصة في الوعي الطبيعاني والديني عند الإنسان إلى أن الأطفال لاإرادياً مؤمنين بالله عز وجل، وأن الإلحاد موقف مكتسب وطارئ على النفس وليس هو الأصل. 


فهل يتوقف الأمر هنا؟ 

لا 🙂


وقد قام عالم الدراسات الأنثروبولوجيا (باسكال بوير) بإثارة بعض الشغب العلمي حينما نشر مقالاً له في مجلة Nature أكد فيه أن الإيمان بالله هو الحتمية الكبرى للإنسان لدرجة أن أحد الباحثين علق على هذا المقال بقوله:-

(اكتشف العلماء أنه لا يوجد ملحدين حقيقيين، وهذه ليست طرفة). 


بالفعل لا يوجد ملحد حقيقي، ففطرة الإنسان هي العبودية لله لا مجرد تصديق وجوده، وعلى هذا فجميع ملحدي الكوكب مجرد متكبرين أو متعالمين أو جهلاء لا أكثر. 


وهذا ليس كلامي بل هو كلام الملحدين أنفسهم عن نفسهم، فقد كتب أحد الكتاب الملحدين في مجلة "New science" قائلاً:-


( الإلحاد أمر مستحيل نفسياً بسبب الطريقة التي يفكر بها البشر، هناك الكثير من الدراسات تثبت أنه حتى أولئك الذين يدعون أنهم ملحدين يتبنون الكثير من العقائد الدينية بدون شعور منهم). 


إنها الحقيقة الكبرى، وجود الله، وما صراخ الملاحدة ليل نهار إلا تعبيراً عن إيمانهم العميق بوجود غاية من الكون، ذلك الإيمان المركوز فيهم مازالت بقاياه تأزهم إلى الإيمان بالمعرفة والحقيقة والسعي في تصميم المقالات والفيديوهات في سبيل الحقيقة التي يظنون وجودها، ولولا إحساسهم الداخلي بأنه يوجد غاية من الكون لما سعوا فيه بأي شكل من الأشكال، إننا مصممون للخضوع لله، لا مهرب لك.


علم التاريخ يثبت وجود الله وصحة دليل الفطرة

عندما سُئِلَ أفلاطون عن الدليل على وجود الله احتج بإيمان اليونان والبرابرة كلهم على وجودها، وقد قال ديفيد هيوم:-


( المسألة اللاهوتية الوحيدة التي تجد فيها اتفاقاً بين البشر يكاد يكون عالمياً هي وجود قوة ذكية غير مرئية في العالم). 


وقد سبقه الربوبي إدوارد هربرت فقال:-


( لا يوجد اتفاق عام حول الآلهة، لكن يوجد اعتراف كوني بالإله). 


وقد قال المؤرخ بلوتارك:-

( بإمكاننا لو عبرنا العالم أن نجد مدناً بلا أسوار، ولا آداب، ولا ملوك، ولا ثروة ولا نقود، ولا مدارس ولا مسارح، ولكن لم يرى الإنسان قط مدينة بلا معابد أو عُبَّاد). 


هذه الحجة اسمها أو صراحة أنا أسميها (حجة الإجماع التاريخي) بينما اسمها في الأدبيات التاريخية (حجة اتفاق الناس). 


ونحن لا نقول أن الدليل على وجود الخالق أن الناس آمنت بوجوده، بل نقول أن إيمان البشر كلهم بغض النظر عن طبيعة ما يؤمنون به، فإيمانهم كلهم بوجود خالق ما للكون بغض النظر عن طبيعة ذلك الخالق بدون أن يتقابلوا أو يتفقوا أو يعرفوا بعضهم البعض دليل على أن الإيمان بالله هو شئ مركوز فينا نحن البشر، وأنه جزء أصيل من هويتنا الإنسانية، وإلا لما اتفق البشر كلهم عليه. 


انك تجد في التاريخ قبيلة منعزلة عن العالم مؤمنة بخالق، ثم تجد امبراطورية تحكم الكثير من الدول تؤمن بخالق، ولا يكون الاثنان سمعا عن بعضهما البعض، لا يعرفان بوجود بعضهما البعض، فمن أين اتفقا على وجود الإله؟ من أين أتت لهم هذه الفكرة؟


ثم ننظر للتاريخ كاملاً فلا نجد أمة واحدة منذ آدم إلى هذه اللحظة تحيا بدون إله، بل إن دولة كوريا الملحدة نفسها وأعتى الدول ديكتاتورية وإلحاداً يتم فيها عبادة رئيسها والانحناء له.


هيمن الله عز وجل على العقول والقلوب على مدار كامل تاريخ الإنسان في كوكب الأرض، وفقط بدأ إنكار وجوده سبحانه وتعالى علواً كبيراً بعد الثورة الفرنسية في فرنسا. 


وحتى أولئك الملحدين الذين ظهروا اتخذوا لهم آلهة كالملحد الذي يعبد الغرب ولا يطيق عليه كلمة، والملحد الذي يعبد نفسه وشهواته حتى أدى به الحال إلى الضياع في هوة شهواته التي لا تشبع. 


الكل يعبد، الكل له إله، فقط طبيعة الإله تختلف من عبد لآخر، ولكن البشر كلهم متفقين على أنه لابد من إله نسعى إليه بكل همتنا وقوتنا.


كل هذا يثبت أننا لسنا فقط كائنات مؤمنة لا إرادياً بل إننا أيضاً نحتاج إلى الإله، ولا مهرب لنا من العبودية لإله ما سواء كان الإله الحقيقي وهو الله عز وجل أو إله مزيف، ففي الحالتين نحن نعبد إلهاً ما، وهذه هي حقيقة النفس البشرية.


إما الإيمان بوجود الله وإما الكفر بالإنسان | لا مهرب من دليل الفطرة

يقول الإمام ابن القيم:-


( كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره، وإقراره له بربوبيته، وادعائه له بالعبودية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره).


وقد عبر اللاهوتي جون مالڤن عن هذه الحقيقة بعبارة "الإحساس الإلهي".


وقد كتبت صحفية أمريكية في جريدة الواشنطن بوست مقالاً بعنوان "أنا ملحدة، فَلِمَ لا أستطيع أن أصرف الله عني؟!" وقد كتبت في المقال قائلة:-


( من المحير والمحبط أن تشعر بوجود شئ لا تؤمن به، لست على يقين فيما يجب علي فعله في شأن الإله، إذا كان هناك طريقة لإبعاد الله عني فسأفعلها، لكن علم النفس ليس في صالحي، سأبقى مع ظل الإيمان للأبد، ومع أني ثابتة على عدم الإيمان إلا أنه لا خيار لي سوى أن أعترف بأنني ملحدة مع ميل للإله). 


ويقول الملحد برتراند راسل:-


( لا شئ يمكن أن يخترق وحدة قلب الإنسان إلا أمر مشبع بصورة عالية مثل الحب الذي بشر به المعلمون الدينيون). 


ويقول بليز باسكال:-

( ما هو الشئ الآخر الذي يعلنه هذا الحنين وهذا العجز غير أنه كان في الإنسان يوماً ما سعادةً حقيقية لكن لم يبقى منها الآن غير علامة وأثر؟ إن الإنسان يحاول عبثاً أن يملأ هذا الفراغ بكل شئ حوله، يبحث في أشياءٍ ليست موجودة عن عون لم يستطع أن يجده في الأشياء الموجودة رغم أنه لا شئ من ذلك ينفع، إذ إن هذه الهوة السحيقة لا يمكن أن تمتلئ إلا بشئ غير نهائي وغير متقلب، بعبارةٍ أخرى.. بالله). 


ويلخص ابن القيم كل هذا فيقول:-


( في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في الخلوات، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك كله إلى يوم لقاءه، وفيه طلب شديد لا يتوقف إلا أن يكون الله وحده هو مطلوبه، وفيه فقر لا يسده إلا محبته سبحانه ودوام ذكره والإخلاص له). 


إذا لم يكن في الكون إلا الظلام فلن ندرك أبداً أنه مظلم، إذ أننا لم نعرف النور من قبل، فلن يكون هناك مصطلح للظلام ولا للسواد، كذلك المعنى من الكون، إذا كان الكون بلا معنى فلن ندرك أبداً مثل هذا المصطلح، ولن نبحث عن أي معنى للكون، ولكن الإنسان في حراك دائم خلف البحث عن معنى لوجوده، عن معنى لحياته، حتى ذلك الملحد الذي يسعى ليل نهار في كتابة المقالات وعمل الفيديوهات لنقد حقيقة أن الكون ذا معنى، ما دفعه لذلك إلا معرفته الداخلية السحيقة بأن الكون ذا معنى يجب الوصول إليه.


فلو كان الظلام هو المحيط بالكون لما قام أي أحد بإنكار وجود ضوء، إذ أننا لن ندرك أصلاً أننا مظلمين لأنه وبكل بساطة لم نرى نوراً في حياتنا.


فإذا كان الكون بلا معنى، فمن أين أتينا بفكرة المعنى واللامعنى؟ ولماذا نسعى للبحث عن المعنى أو إنكار وجوده؟!!


الملحد يكذب على نفسه بجميع سعيه خلف نقد الإيمان، فهو بكل أفعاله مقر بأن للوجود معنى وإلا لما سعى خلف إنكاره، مقر بأنه ليس مجرد مواد كيميائية، إنه ليس مخلصاً لإلحاده.


أنت أمام خيارين، إما أن تخلص لإلحادك فتكفر بحقيقة نفسك، وإما أن تخون إلحادك وتؤمن بالله لكي تحيا.


اعتراضات الملحدين على دليل الفطرة والرد عليها

الاعتراض الأول: الإيمان سببه الخوف من الطبيعة وليست الفطرة

الاعتراض:-

الإيمان جزء من طبيعة الإنسان ليس لأنه شئ حقيقي ولكنه فقط راجع لخوف الإنسان من الطبيعة الذي أدى له لاختراع فكرة وجود قوة غيبية تحفظه من أهوال الطبيعة وكوارثها. 


الرد:-

أولاً: هذا الاعتراض خالٍ من الأدلة أو الشواهد التاريخية، فما الدليل على أن الإيمان بالله نانج عن مجرد الخوف من الطبيعة؟ إذ أننا نمتلك الأدلة على أن الإيمان بالله شئ في جيناتنا، وليس مجرد انعكاس لشعورنا بالخوف من الطبيعة.


ثانياً: هذا الاعتراض هزيل للغاية، فهو أقصى ما يستطيع فعله هو أن يفسر سبب إيمان الناس، لكنه لا ينفي وجود الله، بل فقط فسر سبب إيمان الناس به، أما وجود الله ذاته فهذا الاعتراض لا يقوى ولا يرقى لنفيه أو إثباته.


ثالثاً: الادعاء بأن الإيمان والتدين نابع عن وهم اخترعه العقل هو ادعاء يعود بالنقض على العقل نفسه، إذ أنه بهذا الشكل يصبح العقل صانع أوهام وعلى هذا فلا يجوز للملحد أن يثق في عقله، وبالتالي لا يثق في هذا الاعتراض، مما سيؤدي به للدخول في دائرة مغلقة من الشلل الفكري.


رابعاً: هذا الاعتراض محطم الأركان منهار البناء، فهو لا يملك أي تفسير منطقي أو إثبات أو نفي دلالي لوجود الله سبحانه، فالادعاء بأن الإيمان منشؤه الخوف من الطبيعة لا يؤثر شيئاً على مسألة الوجود الإلهي، فالإله قد يكون موجوداً وأودع هذا الخوف قلب الإنسان لكي يرده إليه، فلا أدري صراحةً أين الاعتراض.


خامساً: ها هو ذا الإنسان اكتشف قوانين الطبيعة، واستطاع مواجهتها، وبناء البيوت المقاومة للزلازل، فلماذا مازال الإيمان بالله في تزايد؟ فالكشف عن دقة الظواهر الطبيعية أدى بالعلماء إلى كتابة آلاف الكتب عن مدى الضبط الدقيق للكون، مما زاد الإيمان بالله، وفي هذا أنقل شهادة عالم الاجتماع الشهير "بيتر برجر":-


( عالمنا الآن متدين باهتياج كما كان من قبل، وفي بعض الأماكن أكثر مما كان). 


سادساً: إن كان الإيمان بالله منشؤه هو الخوف من الطبيعة، فلابد من أن يكون الإيمان دائماً متوجهاً نحو إله ذو قوة مطلقة، لكننا نجد الكثير من الأمم التي عبدت الفئران والثعابين والكثير من الحيوانات الضعيفة الهزيلة الوضيعة، وعلى هذا فلا يمكن القول بأن الإيمان بالله سببه البحث عن أمان دنيوي فقط، بل إنه احتياج أشبه بالماء والهواء. 


سابعاً: الادعاء بأن الإيمان بالله سببه الخوف هو ادعاء يعود بالنقض والهدم على الإلحاد نفسه، فإن كان الإيمان بالله سببه الخوف من الطبيعة فالإلحاد سببه الخوف من محاسبة الإله، فالإله يشرع القوانين التي سيحاسب الملحد يوم القيامة عليها، ولكن الملحد يريد إطلاق العنان لشهواته التي يحجمها ويحد من شدتها الإله، فقرر الكفر به لا اقتناعاً ولكن حيوانية من نفس الملحد الباحث عن شهواته، وفي هذا يقول الشاعر البولندي الحائز على جائزة نوبل "تشزلاف ملوز":-


( الأفيون الحقيقي للشعوب هو الإيمان بالعدم بعد الموت، فهو العزاء الكبير بأن خياناتنا، وجشعنا، وجبننا، وقتلنا، لن يكون عرضة للمحاسبة). 


الاعتراض الثاني: الإيمان سببه محاولة تفسير الكون وليست الفطرة 

الاعتراض:-

سبب وجود إيمان بالله هو محاولة الإنسان أن يفسر الكون، وقد سلك الإنسان في محاولته تفسير الكون ثلاث مسالك أو ثلاث مراحل. 


المرحلة اللاهوتية: وهي تلك المرحلة التي كان الإنسان ينسب فيها كل شئ خارج عن سيطرته إلى وجود قوى خارقة تفعل هذه الحوادث الخارجة عن سيطرته.


المرحلة الميتافيزيقية: وهي تلك المرحلة التي بدأ يفسر الإنسان فيها حوادث الكون على أنها تحدث نتيجة الذوات والأشياء المجردة. 


المرحلة الوضعية: وهي تلك المرحلة التي توقف فيها الإنسان عن البحث عن سبب الظواهر الكونية واكتفى بمجرد وجود القوانين محاولاً فهمها بعقله والتجربة العلمية.


وعلى هذا فالإيمان بالله أثر عن المرحلة الأولى ليس إلا.


الرد:-

أولاً: هذه المراحل الثلاث هي المراحل التي وضعها أوجست كونت وهي ليست ناتجة عن استقراء للتاريخ الإنساني بل فقط مجرد قراءة فلسفية خاصة لكونت تم إسقاطها عمداً على التاريخ.


ثانياً: المراحل الثلاث هذه ليست متعاقبة خلف بعضها، وإنما هي مراحل متفاوتة، قد تتقابل في عصر واحد كالعصر الذهبي للإسلام الذي اجتمعت فيه المرحلة اللاهوتية والوضعية، وأوروبا لم تنتقل من المرحلة اللاهوتية للمرحلة الوضعية، بل انتقلت من المرحلة الميتافيزيقية في روما القديمة للمرحلة اللاهوتية في القرون الوسطى، وهذا بعكس ترتيب كونت، وهذا يؤكد على أن هذه المراحل ليست بالفعل مراحل متعاقبة أو مراحل طبقية، وانما هي مجرد تمظهرات لمدى تفاعل الإنسان مع حقيقة وجوده، وقد حقق المسلمون أفضل تفاعل فيما يخص هذه المراحل الثلاث.


ثالثاً: ذكرت في "ثانياً" أن المسلمون هم من حققوا أفضل تفاعل وجودي مع هذه المراحل الثلاث، وبالفعل هذا ما اعترف به أوجست كونت نفسه واضع ومؤلف ومبتدع هذه المراحل الثلاثة، ففضل العبقرية الإسلامية على الفكر الكاثوليكي.


رابعاً: المرحلة اللاهوتية هي أرقى المراحل، فبعد أن يتعرف الإنسان على قوانين الكون ومدى إعجازها، ودقتها، يبحث عن مقنن هذه القوانين، فيخرج من حيز الكون الضيق لسعة الأفق الوجودي الأوسع.



الاعتراض الثالث: الإيمان بوجود الله سببه الفقر وليست الفطرة

الاعتراض هذه المرة هو اعتراض من ماركس بنفسه، ولولا أن أتباعه مقتنعين به ويرونه حقيقة مطلقة لما انتبهت له من فرط سذاجته، فالاعتراض يقول بأن كل مظاهر الوعي الإنساني كالثقافة، والأخلاق، والدين، أثر حتمي للمنظومة الاقتصادية، فالاقتصاد هو الذي يصوغ معتقداتنا وفهمنا للعالم، وكلما تغير الاقتصاد تغيرت المعتقدات، ولهذا فقد جاء في البيان الشيوعي:-


( إن الدستور والأخلاق والدين كلها خدعة برجوازية، وهي تتستر وراءها من أجل مطامعها).


الرد:- 


أولاً: هذه الدعوى تعود على نفسها بالبطلان، فإذا كانت كل مظاهر الوعي الإنساني هي أثر حتمي للمنظومة الاقتصادية فهذا يعني أن ذاك العقل الذي أنشأ هذه المظاهر المختلفة من الوعي لا يمكن الثقة فيه، وبما أنه لا يمكن الثقة فيه، وكانت البنية الاقتصادية نفسها هي نتاج عقل الإنسان الذي لا ثقة فيه فعلى هذا تسقط جميع النظم الاقتصادية ولا يمكننا الثقة فيها، بما في ذلك نظام ماركس نفسه، فإن انهارت نظم ماركس الاقتصادية كان ادعاؤه هذا باطل إذ أن هذا الاعتراض هو جزء من منظومته الاقتصادية المنهارة لأنها ناتجة عن العقل الذي لا يمكن الثقة فيه.


ثانياً: لقد حكمت الشيوعية روسيا، فلماذا لم تنجح في استئصال الدين من النفوس؟ إذا كان الدين مجرد انعكاس للبنية الاقتصادية فها هي ذا بنية اقتصادية إلحادية محضة حكمت لسنين طويلة ولم يتم نزع الدين من النفوس بل زاد التمسك به لدرجة أن السلطة في الاتحاد السوفيتي استخدمت القوة في اجتثاث المؤمنين، ولم ينجم في النهاية سوى المجاعات والمشاكل الاقتصادية لدرجة أن البشر من فرط الجوع أكلوا بعضهم البعض وظلوا متمسكين بعقيدتهم في وجود الله و وحدانيته رغم قتلهم لبعضهم البعض.


ثالثاً: تفسير الدين على أنه مجرد انعكاس للبنية الاقتصادية يقول بشكل غير مباشر أن الدين لم يظهر إلا بعد التجمع البشري وظهور النظم الاقتصادية الناتجة عن تجمعهم، وهذا أمر يرفضه علم الأعصاب وعلم النفس اللذان يؤكدان أن الدين والتدين هو أمر مركوز في كل نفس بشرية.


الاعتراض الرابع: الإيمان بوجود الله أثر عن عقدة أوديب وليست الفطرة


هذا الاعتراض هو شطح خيالي من بنات أفكار فرويد ناقشته بشكل تفصيلي في هذا الفيديو الذي بمجرد ما أن تشاهده ستتفاجأ أن "بنات" أفكار فرويد هن بنات مومسات بشكل مريض 🙂


صراخ الملحدين وبكاؤهم أمام دليل الفطرة


أحب أن أبدأ هذا الجزء من المقال بعبارة مؤلمة يعبر فيها الملحد "ألبير كامو" عن لعنة الحياة وجحيمها بدون الله فيقول:-


( ثقل الأيام مخيف لكل امرئ يعيش وحده من غير إله ومن غير سيد). 


صدق ألبير كامو، إنها حياة بائسة وجيمية بدون الله، ثلاث سنوات غزاني الإلحاد، لم يكن يمر عليا يوم بدون محاولة انتحار أو حتى التفكير فيه، إنها حياة أقل ما يقال عنها أنها نشوة إبليس في قعر جهنم.


أجل يا سادة، هكذا أصف الإلحاد، الإنسان لن يحيا بدون إله، وفي هذا يعترف الملحد "برتراند راسل" فيقول:-


( يبدو أن شيئاً في المرء ينتمي بعناد إلى الله، حتى عندما يشعر المرء أنه أقرب ما يكون إلى أشخاص آخرين). 


أجل شئ ما بداخلنا يؤزنا لله أزا، مرتبطين به رغماً عنا، عابدين له بكل خلية فينا وإن أنكرنا هذا، إلا أن الله سبحانه وتعالى قاهر لنا بمشيئته الكونية، ولكنه فقط يتركنا نحن من نقرر هل ننصاع لمشيئته الشرعية أم نصرخ من الألم في الدنيا والآخرة. 


هذه هي الحقيقة يا سادة، لا مفر من الله، إنه بداخلنا، إنه بأعماقنا، إنه يغزونا رغماً عنا، ومهما هربنا منه، يبقى هوالمسيطر المتحكم، ونبقى نحن حزانى فاقدين لذواتنا، فإما الله، وإما جحيم الدنيا والآخرة.


ألقاكم في مقال جديد قريباً... سلام 😉

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدليل الأخلاقي على وجود الله | سلسلة الأدلة على وجود الله

الثوابت الكونية و وجود الله

من هم أهل السنة والجماعة؟