أول واجب على المكلف ما بين السلفيين والأشاعرة
رسالة شكر.
قبل الدخول في موضوع الحلقة أود أن أشكر أولئك الأفاضل لدعمهم ومساهمتهم عن طريق موقعنا على باتريون - PATREON و PayPal في نشر العلم على موقع أكسيولوجي وعلى قناة الموقع، شكراً لكم وبارك الله في جهادكم بأموالكم، والآن لنستمتع قليلاً بنفحة من العلم.
أول واجب على المكلف في القرآن والسنة.
أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكان مبدأ دعوتهم ومنطلقها هو :-
{ اعبدوا الله مالكم من إله غيره }
وكان الرسل عليهم الصلاة والسلام مأمورون بتبليغ رسلهم أول ما يبلغوهم هو توحيد الله وعبادته سبحانه، فنقرأ قوله تعالى:-
{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }
هذه الآية الكريمة واضحة الدلالة في أن كل أمة أول ما أمرهم به رسولهم عليه السلام هو عبادة الله واجتناب الطواغيت، أي توحيد الله عز وجل.
وهذا ما نلاحظه في دعوة سيدنا نوح عليه السلام فقد قال الله عز وجل عن سيدنا نوح عليه السلام:-
{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قومي اعبدوا الله مالكم من إله غيره }
أرسل الله عز وجل سيدنا نوح عليه السلام إلى قومه فكان أول ما أمرهم به أن يعبدوا الله وحده فما لهم من إله غيره.
ونجد سيدنا رسول الله ﷺ أول ما يدعو الناس إليه هو توحيد الله عز وجل فيقول:-
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ).
ولما جاءه وفد عبد قيس قالوا له ﷺ : مرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، فأمرهم ﷺ بالإيمان بالله وحده وقال:-
(أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)
قالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال:-
( شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم).
ولما بعث سيدنا رسول الله ﷺ سيدنا معاذ رضي الله عنه إلى أهل اليمن قال له:-
( إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى ).
وفي رسالته ﷺ لهرقل قال له:-
( أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)
ثم استشهد بقوله تعالى:-
{ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الله }.
إذا فالآيات والأحاديث دالين على أن أول واجب على المكلف في العموم هو توحيد الله تعالى، وهنا قد يسأل سائل فيقول كيف سيوحد الله وهو لا يعرف الله؟ أليس من الأولى أن ينظر ويستدل فيعرف الله ثم يوحده؟
وهنا نرد بأن معرفة الله سبحانه وتعالى معرفة فطرية، فالإنسان قد خُلِقَ على خِلقَة تقتضي الإيمان بالله عز وجل والتسليم له سبحانه، وفي هذا يقول الله عز وجل:-
{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }
فمعرفة الله عز وجل معرفة فطرية، وليس معنى قولنا بفطرية معرفة الله أن الإنسان يولد عارفاً لله عز وجل، فالله سبحانه قال:-
{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا }.
ولكن معنى قولنا بأن معرفة الله هي معرفة فطرية أن الإنسان يولد بخلقة تقتضي قبول الحق والانصياع له بمجرد أن يعرض عليه، فالأصل في فطرة الإنسان أنه مخلوق بخلقة ستضطره لا إرادياً إلى الإيمان بوجوده سبحانه بدون استدلال ولا نظر.
وما حصل من إنكار لوجود الله عز وجل ناتج عن الانتكاس الطاغي لفطرة المنكر وفسادها، ولهذا نجد المنكرين لوجود الله عز وجل قلة على مر التاريخ الإنساني، بل وفي عصرنا هذا نجد أنه وبحسب إحصائيات مركز بايو فإن نسبة الملحدين من كل سكان العالم هي 5% فإذا علمت أن هذه النسبة معظمهم عوام وفيهم من يسعى خلف شهواته، بقيت نسبة العقلاء فيهم ضئيلة للغاية.
بل و 99% من العلماء الحاصلين على نوبل مؤمنين بوجود الله عز وجل، وجل الفلاسفة والمفكرين على مر تاريخ الإنسان مؤمنون بوجود الله عز وجل رغم اختلافهم في صفاته جل وعلا، ومن أنكر وجود الله عز وجل من العلماء والفلاسفة والمفكرين عددهم قليل مقارنة بالمؤمنين.
والتاريخ الإنساني يشهد على أنه ما اجتمع قوم في بلد من البلاد منذ آدم حتى هذه اللحظة إلا وكان لهم إله ومعبد.
وبالرجوع لعلم النفس نجد أن الاطفال يولدون بخلقة تدفعهم للإيمان بوجود الله عز وجل، وهذا ما قرره عالم النفس الشهير جاستن باريت بعد أن جمع الأبحاث العلمية في كتاب تمت تسميته "فطرية الإيمان"
أثبت فيه أننا كلنا كبشر نولد بشكل أو بآخر عندنا ميل لأن نكون مؤمنين بالله عز وجل، وأيضا علم الأعصاب يشهد على فطرية الإيمان بوجود الله تعالى فقد تفرع عن علم الأعصاب الحديث علم اسمه علم الأعصاب اللاهوتي يبحث في ظاهرة الإيمان والميل للإيمان بوجود الله عز وجل.
وقد كتب الكثير من العلماء في هذا المجال كتب بعناوين مبهرة.
وعلى هذا فمعرفة الله عز وجل والإيمان بوجوده تعالى هو أمر فطري موجود فينا كلنا، وعلى هذا فيكون أول واجب على المكلف ليس المعرفة وإنما هو توحيد الله عز وجل.
هذا من ناحية الواجب عموما ولكن لكل إنسان حالة خاصة به، فالأصل هو أن أول واجب على المكلف توحيد الله، ولكن قد يكون المكلف شخص فاسد الفطرة فهنا أول واجب عليه الاستدلال والنظر، أو قد يكون الشخص سليم الفطرة ولكنه ولد في بيت ومجتمع مسلم أصلاً وتربى على الإسلام، فيكون أول واجب عليه عند بلوغه سن التكليف هو الطهارة ثم الصلاة.
وهكذا يختلف أول واجب على المكلف عند تطبيقه على شخص بعينه بحسب حال هذا الشخص، ولكن الأصل هو أن أول واجب هو التوحيد، كدعوة مشرك مؤمن أصلاً بالله عز وجل، فيكون أول واجب عليه هو نطق كلمة التوحيد.
أول واجب على المكلف عند أهل البدع
في الوقت الذي يقرر فيه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أن أول واجب على المكلف هو توحيد الله عز وجل، فإن المبتدعة قرروا أن لهم نظرة أخرى أصوب من نظرة القرآن والسنة، فقالت طائفة منهم أن أول واجب على المكلف هو أن يتعرف على الله عز وجل، وهذه المعرفة عندهم معناها معرفة وجود الله وتفرده بخلق العالم لا تُنال إلا بالنظر والاستدلال بدليل الحدوث ودليل التمانع وغيرها من الأدلة العقلية، وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار كما ورد في كتاب شرح الأصول الخمسة:-
(ومعرفة الله لا تُنال إلا بحجة الشرع ).
ويقول أيضاً رحمه الله:-
( لأنه تعالى "يقصد الله" لا يُعرَف ضرورة ولا بالمشاهدة فيجب أن نعرفه بالنظر ).
ومنهم من قال أن أول واجب على المكلف هو النظر والاستدلال المفضي إلى معرفة وجود الله وتفرده بخلق العالم، وفي هذا يقولرالإمام الباقلاني في كتابه الإنصاف:-
( أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد النظر في آياته).
ويقول الإمام أبو المعالي الجويني:-
( فإن قال قائل فما الدليل على وجوب النظر من جهة الشرع؟ قلنا: الدليل عليه إجماع المسلمين على وجود معرفة الله تعالى على اتفاقهم أنها من أعظم القرب وأعلى موجبات الثواب ... فإذا ثبت الإجماع فيما قلناه وثبت بدلالات العقول أن العلوم مكتسبة يتوقف حصولها على النظر الصحيح، وما ثبت وجوبه قطعاً فمن ضرورة ثبوته وجوب ما لا يتوصل إلا به "أي النظر" ).
ومنهم من قال أن أول واجب على المكلف هو مجرد إرادة النظر وليس النظر نفسه، وفي هذا يقول الإمام الجويني في كتاب الإرشاد:-
( أول ما يجب على العاقل البالغ استكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً القصد إلى النظر الصحيح ).
وعلى كل فحاصل أقوالهم هو أن أول واجب على المكلف هو الغرق في الدلائل العقلية الكلامية الموصلة إلى الإيمان بوجود الله و وحدانيته.
شبهات المبتدعة في أول واجب على المكلف
الشبهة الأولى: أليست المعرفة أصل التوحيد؟
أنتم السلفيين تقولون أن توحيد الله سبحانه هو أول واجب على المكلف، بينما معرفة الله الحادثة بالنظر هي أصل التوحيد، فكيف سيوحد الله أحد لا يعرف الله؟
الرد على الشبهة.
أهل السنة والجماعة "السلفيين" لا يعارضون كون معرفة الله تعالى هي الأصل للتوحيد، وأنه لا يتم التوحيد إلا بمعرفة الله عز وجل، ولكن نحن أهل السنة والجماعة نقول كما يقول القرآن والسنة بأن معرفة الله عز وجل هي معرفة فطرية لا تحتاج لنظر ولا استدلال في الأصل كما بيننا في أول المقال، وعلى هذا فإذا كانت معرفة الله عز وجل معرفة فطرية فيكون أول واجب على المكلف هو توحيد الله عز وجل المعروف أصلاً في الفطرة بداهةً.
الشبهة الثانية: النبي قال أن أول واجب على المكلف النظر.
أنتم السلفيين تقولون أن أول واجب على المكلف هو توحيد الله عز وجل، وهذا يتعارض مع حديث إرسال معاذ إلى أهل اليمن إذ قال له رسول الله ﷺ:-
(...فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم ... )
الرد على الشبهة من أربعة أوجه.
الوجه الأول للرد.
ورد الحديث بألفاظ أخرى غير لفظ "فإذا عرفوا" فأكثر طرقه ألفاظها هي:-
(فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله ).
بل لقد ورد الحديث في صحيح البخاري كتاب التوحيد بلفظ :-
( فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله )
فالرواية الأكثر هي توحيد الله عز وجل.
الوجه الثاني للرد.
بداية الحديث هي حجة على المبتدعة لا لهم، فالحديث يبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم:-
( فادعهم إلى عبادة الله، فإذا عرفوا الله ... )
وعبادة الله عز وجل لا تكون إلا بتوحيده سبحانه، وعلى هذا يكون أول ما دعاهم إليه هو توحيد الله سبحانه.
الوجه الثالث للرد.
هؤلاء الذين أْرسِلَ إليهم سيدنا معاذ رضي الله عنه هم قومٌ أهل كتاب أي مقرون بوجود الله سبحانه وتعالى ومقرون بربوبيته جل وعلا، ومعرفة الله عند المبتدعة هي معرفة وجوده وربوبيته سبحانه، وأهل الكتاب مقرون بالاثنين.
الوجه الرابع للرد.
لو كان معنى المعرفة في الحديث هو معرفة وجود الله وربوبيته كما يدعي المبتدعة فكيف يعقبه رسول الله ﷺ الأمر بالصلاة رغم أن الشهادتين هما اللواتي يجب أن يأمر بهما؟
الشبهة الثالثة: لا تقليد في أمور العقيدة، لابد من النظر.
إن المرء مطالبٌ بالدليل والبرهان على فعله كما قال تعالى:-
{ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }.
ولا يجوز تقليد الآباء في العقيدة كما قال تعالى:-
{ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}.
الرد على الشبهة.
التقليد المذموم هو التقليد من غير برهان ولا حجة، أما تقليد الرسول ﷺ في العقيدة فهو ليس التقليد المذموم فهو تقليد مبني على ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من نبوة سيقت دلائلها وبراهينها في القرآن الكريم.
ثم إن التقليد الذي ذمه القرآن هو التقليد في الشرك وليس التقليد في التوحيد.
وياله من عجب من هؤلاء المبتدعة، يذمون التقليد في التوحيد، ويريدون من أتباعهم تقليدهم في النظر، إن الدعوى للنظر بحسب معايير المبتدعة هي في حد ذاتها دعوة تحتاج لنظر ولا يجوز التقليد فيها، فإذا دخل الإنسان في هذه الدائرة ما سلم من النظر في النظر المفضي للنظر في دائرة مغلقة لعينة.
الشبهة الرابعة: ألم ينظر نبي الله إبراهيم؟
كيف أيها السلفيين تنكرون أن أول واجب على المكلف هو النظر بينما نبي الله إبراهيم حاج قومه بالنظر في الكواكب والنجوم وفي هذا قال الله تعالى:-
( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماء والأرض وليكون من الموقنين ).
الرد على الشبهة.
الاستدلال والنظر هو طريق من طرق المعرفة، وحاجة قوم إليه لا يعني أن البشر كلها محتاجين للنظر والاستدلال.
دلائل بطلان أن أول واجب هو النظر من وجهين
الوجه الأول.
لا يوجد دليل لا بالقرآن الكريم ولا السنة النبوية على كون أول واجب على المكلف هو النظر، بل الثابت عن سيدنا رسول الله ﷺ أنه كان أول ما يدعو إليه الكفار هو نطق الشهادتين.
الوجه الثاني.
القول بوجوب النظر وترتيبه بالطريقة التي يذكرها المتكلمون كدليل الجواهر والأعراض ونحو ذلك يجعل الإيمان محصور في فئة معينة من الذين لهم قدرة التعمق في هذه المباحث، وبهذا يكون المسلم العامي كافراً وإن شهد الشهادتين وصلى الخمس وصام الشهر، وهذا قول شنيع.
الخاتمة.
ليس الهدف من هذا المقال التشنيع على المبتدعة، بل دعوتهم للعودة إلى القرآن والسنة، فيا أخي الأشعري، ألا ترجع للمنهج الحق؟
إذا أعجبكم المقال يا إخواني فأبدوا إعجابكم به، ويمكنكم مناقشتي في التعليقات والاستفسار عما قد يكون أشكل عليكم.
وأيضاً لا تنسوا مشاركة المقال مع إخوانكم كي يستفيدوا، وإهداؤه لمن تعرفوه من المبتدعة.
كما يمكنكم دعم محتوى موقع أكسيولوجي على موقع باتريون أو موقع بايبال أو فودافون كاش.
Vodafone cash:-
00201091670240
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف