قصتي مع الفلسفة.


لماذا أكتب هذا المقال؟ 

الكثير من الشباب و الشابات يطلبون مني منهجاً لدراسة الفلسفة، الكثير منهم منبهرٌ بها، الكثير منهم يظن أن تعلمها سيجعله أو سيجعلها مفكرون عظماء، و لا يعلمون أن الفلسفة لعنة ما إن تحل في العقل و تهيم بالقلب حتى تفتك بصاحبها فتكا.

لهذا قررت أن أكتب لكم هذا المقال، لأفضح لكم حقيقة الفلسفة، و كيف يمكن دراستها بدون الاحتراق بنيرانها، إنها كالمحيط الأطلنطي، إن لم تكن تعرف السباحة فإما أن تغرق، و إما أن تبتلعك أسماك القرش.

فإما أن تتعلم السباحة في محيط الفلسفة، و إلا غرقت في تلاطم أمواجها المهيبة، أو فتكت بك أفكارها الغير مقيدة بأي قيد فكري كما فتكت بي.

لماذا الفلسفة شريرة؟ 


لماذا الفلسفة شريرة؟ أو بمعنى آخر لماذا تفعل الفلسفة ما تفعله في طلابها؟ لماذا ما خاض بحرها أحد دون عتاد إلا و أردَتْهُ قتيلاً في ساحات معاركها جميعا؟

أعدمت سقراط.
أدخلت نيتشه مشفى المجانين.
أدت بأفلاطون إلى قتل الأطفال.
هوت بأرسطو في دياجير حطام المشاعر.
أنجبت بماركس أكبر عمليات إبادة في التاريخ.
و أغرقت كانط في محيط المثالية اللاعقلانية.
إيميل سيوران كاد أن ينتحر.

فلماذا تفعل هذا؟ و كيف تؤدي إلى كل هذا؟ و ما سبب تمزق الجميع فيها؟ هنا أعرض لكم الإجابة.

الفلسفة في الأساس تعتمد كل الاعتماد على مجرد التفكير العقلي، فقط التفكير العقلي، و حينما تتأمل هذه النقطة و تدرك أن لكل إنسان عقله الخاص و فكره الغير معتاد سيتضح لك لماذا تمزق كل من خاض متجرأً طريقها الملعون.

أنت بمجرد أن تقرأ فلسفات العقول المختلفة، ستفاجأ بأن لكل فيلسوف آراء تختلف عن غيره، آراء شاطحة، آراء عاقلة، مزيج مكنمل من التناقض و التأثير العاطفي، في البداية قد لا تكترث حتى تقرأ الأدلة و البراهين التي يقدمها كل فيلسوف على فلسفته.

هنا و في هذه اللحظة تبدأ اللعنة.

الأدلة التي يقدمها الفلاسفة منطقية، إنها أدلة مقنعة، و لكنهم في نفس الوقت كلهم متناقضون في الأفكار، متناقضون في النتائج، و لكنهم كلهم أدلتهم مقنعة.

تخيل حجم الكارثة التي أنت فيها حينما تنظر لآلاف الأفكار التي تبدو أفكاراً جنونية متناقضة و في نفس الوقت على كل منها أدلة عقلانية منطقية مقنعة.

تقف أمام كل هذا العصف الماحق لروحك و عقلك ضعيفاً بجهلك لا تدري حقاً من باطل، و لكنك لبرهة وسط تلك العواصف الفكرية تحاول عبثاً تثبيت نفسك المهتزة.

فتقول أنك سوف تبحث في كل هذه الأفكار، ممحصاً كل الأدلة التي يقدمها كل صاحب فلسفة، هنا و في تلك اللحظة التي تظن فيها أنك تضع خطوة على طريق النصر على كل هذه الحيرة، فأنت في الحقيقة تؤجج العاصفة من عاصفة رملية إلى عاصفة نار ستشوي عقلك البائس ثم تفتك بروحك المسكينة.

فتدخل بقدمك إلى ذاك العالم، و تبدأ في البحث و المراجعة و التمحيص.

كتبٌ هناك، حقائق تتجلى، تناقضات تزيد، معاييرٌ مضطربة، سهر كثير، نوم قليل، فلسفة مادية حقيرة، و أخرى مثالية مُـتَـوَهَـمَة، رأسمالية، شيوعية، الوجود انعكاس لأفكارنا، لا بل أفكارنا هي الناتحة عن الوجود، هل نحن موجودون حقاً؟ آه يا ديكارت كيف تشك في نفسك؟ لا يا إيمانويل هناك بديهيات عقلية، صراخ يزيد، و ألم شديد، ولا يقين، لا يوجد أي يقين.

أفق من سكرتك العظمى، لقد مر عمرك و أنت الآن في السبعين.

- ماذا؟

صرت في السبعين و لم تصل لأي يقين أو أي حق، و للأسف انتهت حياتك و لن تستطيع أن تكمل شيئا.

- لكنني لم أستفد شيئاً بعد، لم أحصل على شئ.

أجل أعلم، و هل كنت تظن نفسك ستصل لشئ ما؟

هنا تدرك أن عمرك ضاع في لا شئ، هنا تدرك أن حياتك لم يكن لها أي معنى سوى العكوف على أفكار سخيفة ليس لها قيمة ولم تغير أي شئ للأفضل.

الناس من حولك يستمتعون أو يتألمون، حياتهم بشكل أو بآخر عاشوها، و أنت لم تعش قط.
أعلمتَ الآن لما الفلسفة شريرة؟

قصتي مع الفلسفة. 




كنت شاباً في الثانوية العامة في السابعة عشر من عمري، كنت منبهرا بالفلسفة ولا أعلم عن عقيدتي الإسلامية شيئا، و كنت أعيش وحدي في بيت عمي، و هناك بدأت تعلم الفلسفة، و بعد مجموعة من الكتب وقعت في الجنون.

أجل الجنون.

بدأ الأمر بالشك في البديهيات العقلية، فلم أعد واثقاً آلأسود أسوداً أم فقط هي عيناي التي تراه كذلك، لم أعد موقناً هل الوجود موجود أم أنها فقط مجرد تخرصات أحلام.

بدأت بشكل عفوي بالشك في كل شئ، و كان بسبب ما أقرأه فلقد كان ما أقرأه شبه منطقي، و بعكس ديكارت الذي شك في وجود الأشياء كنت أنا أشك في ماهياتها لا وجودها.

رغم تذبذبي بين وجودها من عدمه إلا أن كارثتي الأكبر كانت في ماهيتها، لماذا الكتاب كتاب؟ لماذا أنا إنسان؟ لماذا الحيوان حيوان؟ بل ما هو الحيوان؟ ما هو الإنسان؟ و ما هو الشئ؟ بل ما هو اللاشئ؟

و صرت أنحدر رويداً رويداً تتقاذفني الكتب يميناً و يساراً و عقلي بينهم كالكرة في ملعب الضلال الأكبر، حتى وقعت في وحدة الوجود الهندية، و صرت من أهل الحلول و الاتحاد، ثم شطحت بعد هذا إلى تناسخ الأرواح، و صرت أرى أن أرواحنا تعاد في أجساد أخرى، و طوال هذه الرحلة لم يكن عندي يقين قوي بأي فكرة من تلك، و كنت حيراناً نادماً وحيداً حزيناً أسفا، حتى كانت ليلتي الأخيرة. 

كانت تلك الليلة هي أتعس ليلة في حياتي، تجمع علي حيرتي و تذبذبي و جهلي و وحدتي، فذهبت إلى كراسي البيت أسألها لماذا أنا حي و هي لا؟ ألسنا ذرات و جزيئات مثل بعضنا البعض؟ مالكِ لا تنطقين؟ أتتجاهلينني؟ أم أنكِ غير قادرة الى الرد؟ 

و قمت وقفت و الغضب يعلوني، و الحزن يكسوني، و أمسكت الكراسي بكل غضب و صرت أكسرها و أنا أصرخ فيها مالكِ لا تنطقين، مالكِ لا تنطقين. 

و مع كل كرسي أكسره كان غضبي يزيد حتى انتهت الكراسي فصرت أصرخ على نفسي و أبكي و أضرب بالحائط رأسي، حتى انهارت قواي و وقعت مغشياً عليا وسط حطام الكراسي. 

ثم استيقظت و قررت أن أبدأ من البداية، فرتبت البيت و رتبت كتبي ثم جلست لبرهة حتى أهدأ، رأيت أنني الفترة التي سبقت كل هذا كنت معتمداً كل الاعتماد على عقلي الذي أوصلني لما أنا فيه، فليتوقف ذلك العقل قليلاً و ليعتمد قليلاً على شخص عقله كاملاً كمالاً مطلقا من الناحية البشرية.

من ذاك الذي اكتمل عقله؟
من ذاك الذي أستطيع الاعتماد عليه؟
إنه بن عبد الله، إنه رسول الله صلى الله عليه و سلم.
سأسلم له نفسي، و أسلم له عقلي.
إنه الوحيد الذي أستطيع الوثوق فيه.
و لكن أين هو؟ أين سيرته؟ أين أفكاره و كلماته؟
إن كل هذا مبسوط في كتب الحديث و كتب السيرة.
هنا قررت أن أبدأ بقراءة صحيح البخاري.
و كان أول ما قرأته كتاب بدء الوحي.

و بدأت الرحلة الجديدة.

بدأت أتجول في الكتاب دون أي أحكام مسبقة، اعتبرت نفسي صفحة بيضاء أتعلم و فقط من أكمل الناس عقلاً، و كلما مر عليا أمر في صحيح البخاري أستطيع تنفيذه كنت أنفذه و أقوم به.

لم أكن أقوم به و أنا ممتلئ بالسعادة، ققط كنت أقوم به لأنه ليس عندي بديل، صلاة و صليت، صوم و صمت، أدب و تأدبت، و مع مرور الوقت و مع زيادة الطاعات، بدأت ااحياة تتغير.

بدأت الحياة فجأة تصبح داخلياً أفضل، بدأت الحياة داخلياً تصبح أجمل، فجأة صرت أشعر بالهدوء و الصفاء الداخلي، ولا أعرف السبب، إن حياتي ما زالت بنفس مشاكلها فمالي هادئ النفس طيب القلب سعيداً؟

صرت فجأة أشعر بالأمان، لم يعد هناك خوف، لم يعد هناك أي قلق كل هذا لماذا؟ فقط لأنني أطعت بن عبد الله، حتى يوماً سمعت حديثاً يقول :-

افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. يقول هل: كلهم في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه و أصحابي. 

فعلمت أنني لن أنجو و لن أنال السعادة الحقيقية حتى أكون على ما عليه النبي و أصحابه من عقيدة و فقه و أخلاق،  فقررت أن أتعلم العقيدة، و بدأت بدراستها مع شيخي عزيز العشماوي، فبدأت الأمور في عقلي تصبح أوضح، و بدأت أجد الكثير من الإجابات على كثير من الأسئلة، و تعلمت الفقه و علم الحديث و التفسير، حتى انضممت لأكاديمية صناعة المحاور و أنا بعمر التاسعة عشر، و كانت نقطة فارقة في حياتي هذه الأكاديمية. 

نظمت لي الأكاديمية كل أفكاري، و منهجت لي جميع شتاتي، و جمعت لي أشلائي، فصرت إنساناً أكثر عقلانية، و فكري صار أكثر اتزاناً، فاستطعت بكل سهولة العودة لقدراتي العقلية بكل ثقة في نفسي، و بعدها بدأت بدراسة الفلسفة من البداية، فوجدت أنني أستطيع الإبحار فيها بكل متعة و سهولة دون أي خوف. 

ثم بعدها انطلقت في دنيا الفكر و العقل و الدين. 
و هذه هي قصتي مع لعنة الفلسفة. 

تعليقات

  1. الله يفك اسرك يا مسلم .... بدأت تهوى بي الفلسفة يمينًا و يسارًا حتى فقدتُ السيطرة على عقلي ... لكن ومض في ذهني مقالاتك .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدليل الأخلاقي على وجود الله | سلسلة الأدلة على وجود الله

الثوابت الكونية و وجود الله

من هم أهل السنة والجماعة؟